معرفة

من أنا؟ عن الحرب المستعرة التي نحرق بها دواخلنا

حين تخوض صراعك الداخلي مع نسخك المتعددة، قد تكتشف أن شفاءك لا يبدأ بالخلاص منها، بل بالاعتراف بها وقيادتها نحو الضوء.

future غلاف كتاب «Introduction to the Internal Family Systems Model»

«سألت نفسي كتيـر .. مرستش يوم على بر.

أنا اللي فيا الخير .. ولا اللي فيا الشر

ولا أنا جوايا ومش داري .. الاثنين في بعض؟

وخمسميت حاجة و... ملهمش دعوة ببعض»

— أيمن بهجت قمر، فيلم الشبح

مدخل:

هل شعرت يومًا بذلك الصراع الذي لا ينتهي؟ أسئلة تدور رحاها داخلك لا تجد لها إجابة. . من أنا؟ هل أنا شخص واحد أم أن بداخلي عددًا من الشخصيات؟ هل هذا شيء طبيعي أم أنه علامة على اضطراب ما من تلك الاضطرابات التي لا تنتهي؟ هل شعرت في موقف ما أنك لست الشخص الذي يتحرك؟ فاقد للسيطرة؟ أو لست الشخص الذي يتصرف مثل هذه التصرفات؟ هل شعرت يومًا أنك تخدم أجندة شخص آخر، أو أن الأمر يبدو وكأنك تلعب في الفريق المضاد وتحاول جاهدًا هزيمة نفسك؟ هل عشت مع بعض الأصوات المجهدة؟ تلك الأصوات التي تنتقدك على كل شيء، وعلى كل حال، وتحاول التهام حياتك وتقلل من جودتها؟ هذه الأسئلة وغيرها التي تبحث في هويتنا، وتتسائل عن الذي يدور في ذلك الكهف شديد الإظلام الذي بداخلنا.

 قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه الأسئلة ليست شائعة، بل محصورة في طبقات وجماعات بعينها، لكـن على الحقيقة، هذه الأسئلة قديمة قدم الإنسـان، وواسعة، وليست بعيدة عن جملة البشـر، قد لا يفطن لها الجميع، وقد تختلف طرق التعبير عنها، لكنها حاضرة وبقوة في كل مكان وجد فيه الإنسـان.

pov: أنا عاجبني شخصيتك أوي:

تأسيس الاغتراب عن النفس ومؤداه:

في هذا المقال، نحاول استكشاف كنه هذه النفس القابعة في الظلام بداخلنا، عبر كشـاف ريتشارد سي شوارتز ومدرسته (IFS – أنظمة الأسرة الداخلية)، وهذا النموذج مبني بالأساس على فكرة النظر إلى الداخل، وهذا شيء أصيل وأولي بل وبدائي في أغلب المدارس النفسية، لكـنه غريب ثقافيًا، ومجتمعيًا، حيث يحثنا المجتمع، ويدفعنا دفعًا للتركيز على ما يحدث في الخارج فقط، وعلى مستوى آخر، يبدو بشكل ما، أننا نخاف من دواخلنا، وأحب أن أقول أنه: حق لنا أن نخاف! فإننا لا نعرف ما يوجد هناك، ولا ندري كيف يمكننا أن نتعامل مع ما سنجده.

علمتنا ثقافتنا ألا ننتبه للداخل، ألا نتوقف مع الألم، مع الفقد، مع الحزن، حتى مع الصدمات، الحياة تمضي سريعًا، وليس هناك وقت للنظر إلى الدواخل؛ إن ذلك يشتتك عن الحياة التي تفر منك بطبعها، عليك أن تلحق بالركب، لا تفتش عن الماضي، ولا يكن قلبك أسودًا معلقًا بما حدث هناك، الحق تيار الحياة المتسارع، اهمل مشـاعرك، لا تتوقف معها. . كم منا تعلم وتربى على هذه المعتقدات؟ والمحصلة؟ مزيد من الحزن، مزيد من الألم، مزيد من الاغتراب عن الواقع.

«بالرغم من أن الكبار يقولون أشياء مثل: ‘كان صغيرًا جدًا عندما حدث ذلك؛ إنه لن يتذكرها عندما يكبر’ فإنه يمكن أن يكون لصدمة الطفولة تأثير مدى الحياة».

وماذا لو حاولنا التوقف بعد ذلك؟ وكيف نتوقف إذا لم نتدرب على التعامل مع دواخلنا؟ وإذا كانت كل التوصيات تنادي بـمزيد من العراك مع الدواخل، للحاق بالركب..

- «نحن لسنا سكان المنزل الذي نقطنه»

- «إذا غضبنا من غضبنا، سنحمل غضبين في نفس الوقت!»

مفهوم الأجزاء والذات:

إن العملاء يأتون إلى العلاج النفسي طالبين المسـاعدة لأسباب وظروف مختلفة، لكن ثمة شيء مشترك بينهم جميعًا، بل بيننا جميعًا لا بينهم، فالعميل والمعالج أشبه برفاق في الطريق كما ينادي إرفين يالوم، يظهر العملاء جميعًا وكأنهم يحترقون في داخلهم! ثمة حرب ضروس، تدور رحاها بداخلهم، قتال مستمر، ليست مجرد مجموعة من الأفكار المتصارعة، أو المشاعر المتناقضة، إنما قتال مستمر، بين مجموعات كاملة، أشبه بشخصيات كاملة بالداخل، لكل منهم ذكرياته، ورغباته، وأفكاره، ولكل منهم طريقته في اللعب داخل ذلك الصراع، ومن ملاحظة هذه الأمور وغيرها، توصل شوارتز إلى ما أسماه (نظام العائلة الداخلية).

«بدأت أسمع العملاء يتحدثون عن هذه الأصوات الداخلية كما لو كانت أشخاصًا مميزين. ومع الوقت، رأيت كيف تتفاعل هذه الأجزاء مع بعضها البعض بطرق تشبه العائلة — فيها رعاية، وصراعات، وتحالفات، وتسلسل هرمي. ولهذا السبب سميت النموذج 'نظام العائلة الداخلي'».

«يعتمد IFS على ملاحظة أن العقل متعدد بطبيعته، وأن هذا التعدد منظم مثل عائلة داخلية، حيث تتولى الأجزاء أدوارًا تشبه إلى حد كبير أدوار أفراد الأسرة».

إذًا ما الذي وجده شوارتز بداخل نفسه وعملائه؟ (مدخل للأجزاء والذات)

لقد وجد شوارتز أننا نحتوي بداخلنا على أجزاء، وهذه الأجزاء هي عبارة عن شخصيات فرعية متميزة (subpersonalities)، لكل منها وجهة نظرها، ذكرياتها، ودورها داخل النظام الداخلي للشخص، الأجزاء عند شوارتز أكبر من كونها  مجرد أفكار أو مشاعر، بل هي كيانات داخلية، تتفاعل مع بعضها البعض، ومع الذات.

كما يورد شوارتز في نص آخر: «الأجزاء أشبه بأشخاص داخلييـن، لهم منظورهم، جدول أعمالهم، مشاعرهم، ويحاولون المسـاعدة بأفضل ما يستطيعون، لكنهم غالبًا ما يعلقون في أدوار متطرفة بسبب التجارب السابقة التي خاضوها».

هذا عن الأجزاء، أما الذات فيقول شوارتز: «الذات هي مقر الوعي — حضور علاجي موجود داخل كل شخص، يتميز بالهدوء، والفضول، والتعاطف، والثقة، والتواصل. إنها ليست جزءًا، بل جوهر من نكون».

أي أن الذات (Self) عند شوارتز، ليست جزءًا من الأجزاء، إنما هي ما يكون موجودًا عندما نتجاوز هذه الأجزاء، وهي مقر الوعي، وعليها جزء كبير في مسـألة الشفاء؛ لأنه إن كانت الأجزاء مستقطبة، ومتنافرة، فإن الذات هي التي ستقود نحو الاتزان، لكي تتحرر الأجزاء من أدوارها.

ما هي الأجزاء؟ التعرف على المنفيين

لقد قسم شوارتز الأجزاء إلى (Exiles) أو ما يعرف بالمنفيين، و(protectors) أو الحماة، بداخلنا نوعان من الأجزاء، أجزاء ضعيفة، هشة، مستوجبة للحماية، وأجزاء أخرى تنمو وتكبر لتأخذ دور المدافع عن هذه الأجزاء، فالمنفيين: هي الأجزاء الضعيفة (Vulnerable parts) التي نحاول حبسها في السجون الداخلية، أو التي نحاول تركها ثابتة مجمدة في الماضي.

تذكر وقتًا شعرت فيه بالإهانة، بالحزن، بالوحدة، بالضعف، بالرعب، بالتخلي.. ماذا تفعل مع هذه الذكريات، العواطف، والأحاسيس الجسدية؟ وما موقفك منها؟ هل تحاول التواصل معها؟ إن كان ذلك فخيرًا، أما الغالبية العظمى من الناس فإنها تحاول دفن هذه الأشيـاء في مكان لا نستطيع حتى نحن الوصول إليها فيه، فالثقافة كما قلنا تحرضنا بأشكال مختلفة، على أن ننفي لا فقط هذه الذكريات والمشاعر، إنما ننفي حتى الأجزاء المتضررة من هذا الضعف.

تقول ديبي فورد: «لقد تربى معظمنا على الاعتقاد بأن لدينا سمات جيدة، وسمات سيئة، ولكي نحظى بالقبول، كان علينا أن نتخلص من السمات السيئة، أو على الأقل نخفيها!

لقد قيل لي: لا تغضب! لا تكن أنانيًا، لا تكن لئيمًا، لا تكن جشعًا..

والرسالة التي أدركتها كانت: لا تكن! [لا تكن أصلًا، أو لا تكن أنت].

بدأت أصدق أنني شخص سيئ؛ لأنني كنت أحيانًا لئيمًا، وأحيانًا أغضب، وأحيانًا أريد أكل كل قطع الكوكيز، اعتقدت أنه للنجاة في أسرتي والعالم، علي أن أتخلص من هذه الدوافع، وبدأت أدفعها تدريجيًا إلى أعماق وعيي، حتى نسيت حتى أنها موجودة.

حتى جاءت المراهقة! كنت حينها قد أغلقت الكثير من أجزاء نفسي، [واستيقظت فجأة ووجدتني] قنبلة موقوتة تمشي على قدمين!».

إن معظمنا نشأ على الاعتقاد بأن لدينا صفات جيدة وصفات سيئة، والصفات الجيدة هي فقط ما يسمح له أن يوجد أو أن يكون، وعليه، فإننا يجب علينا أن نتخلص من كل الجوانب السيئة والضعيفة بداخلنا، وبما أنها لا تموت بهذه الطريقة، فإنها تدفن عميقًا، والأزمة في ذلك كما يورد شوارتز، أنه بمجرد أن تبدأ عملية النفي، فإنها تعزز نفسها.

إذا توقفنا مع الحزن، مع الكرب، مع الصدمة، فإنها تأخذ وقتها، ثم تنتهي، تعرقلنا نعم لبعض الوقت، لكـن ذلك هو واجب الوقت، فتتواجد لوقت ثم تذهب. . أما بعد نفي الضعف، فإنهم يعرضون نظامك للخطر فعلًا! ويعيقوا قدرتك على مواصلة العمل! فأنت تحاول نفيهم، وهم يحاولون إعاقتك، وتشتعل الحرب بداخلك، ويصبح الكل مهزومًا. تعلمنا ثقافتنا ألا نتوقف أمام عجزنا، ونطلب منك هاهنا أن تتوجه نحو ألمك! وهو ما يتعارض مع الطريقة التي عشت بها حياتك، إن ذلك يتطلب منك شجاعة كبيرة، إننا نخبرك أن تتوجه نحو ما مضيت حياتك وأنت تحاول أن تتجنبه!

التسامح مع الضعف، وأثر النموذج الثقافي على الرجال:

ماذا لو كنت رجلًا!

إننا نسعى سعيًا حثيثًا لإثبات أن الرجال هم بشـر في نهاية المطاف، بشر بكل ما في البشرية، من عوار، ونقص، ورعونة، إضافة إلى كل خير وفضيلة، بشر، عندهم من المشـاعر، والهرمونات، ما لدى الإناث، لكـن المجتمع لا يرضى بمثل ذلك، وإن كان لا يرضى بمثل ذلك للنسـاء مرة، فإنه يرفض تمامًا أن يكون للرجال حظ من ذلك، الثقافة تجبر الرجال على التجاوز، على عدم الوقوف أمام الضعف، كيف يمكن للرجل أن يبكي! كيف يمكن أن تكون رجلًا وتعبر عن مشـاعرك ونقصك واحتياجك وخوفك! وبالتالي يحاول الرجال بشكل أعمق دفن كل الهشاشة التي يمكنك أن تواجههم عميقًا جدًا. . ولهذا أثره على وجودنا وتفاعلاتنا جميعًا.

لماذا وجد المنفيين من الأساس؟

إن الطفل يولد وحيدًا، مستوحشًا، خارجًا من جنة الرحم، ليجد نفسه في مكان غريب، وتكون هذه أول صدماته، بعد الصدمة الأولى المركوزة في وجدانه، كيف يمكن للطفل الوجود في هذا العالم؟ لا يمكن له ذلك بعيدًا عن مقدم الرعاية، وعليه فإنه يعتمد اعتمادًا كليًا في وجوده، لا في جودة وجوده فقط، إنما في وجوده نفسه على الآخرين من حوله، يستجلب من مقدم الرعاية الأمان للبقاء في هذا العالم. . ومع الرسائل المهددة التي تصل إلى الطفل بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن هذه الأجزاء تبدأ في التكون.

«المنفيون هم أجزاء مروا بصدمات، أو خزي، أو إهمال، أو رفض. ولأن ألمهم شديد جدًا، يحاول النظام الداخلي حبسهم بعيدًا لحماية الشخص من أن يغرق في هذا الألم».

«المنفيون غالبًا هم أصغر الأجزاء سنًا — الأجزاء الرقيقة والحساسة التي تحمل أعباء الاحتياجات غير الملباة والمشاعر المؤلمة. يرى النظام هذه الأجزاء على أنها خطيرة، لا لأنها ضارة، بل لأنها تثير شعورًا طاغيًا بالهشاشة».

«عندما يُجرح الطفل، أو يُذل، أو يُرعب، فإن الجزء الذي يحمل تلك المشاعر يُنفى غالبًا، ليس لأنه سيئ، بل لأن الشعور به أو إظهاره مؤلم جدًا».

خلاصة الحديث عن المنفيين:

إن الأجزاء المنفية، تشتتنا عن وجودنا في هذا العالم، ترد على أشياء حدثت في وقت سابق، تمشي في مكان، أو ترى شيئًا، أو يقول لك آخر شيئًا ما، لا يستدعي جلبة كثيرة، لكنك فجأة تشعر بذلك البركان الذي ينبعث في صدرك.. مشاعر شديدة، من خزي وألم ووحدة وهجر وإذلال، وأفكار مرعبة، تجعلنا ننسحب، لا نستطيع النوم، ولا القيام من السرير، وتعطلنا.. ولذلك، تخرج الأجزاء التي تحاول حمايتنا.

لهذا خلق الله الحماة:

من هم الحماة؟

وفقًا لشوارتز فإن الحماة، هم أجزاء تولت أدوارًا معينة، تهدف إلى منعنا من الشعور بالألم، أو التعرض للأذى مجددًا، إنها تمشي في الحيـاة وهي تقول: لن أسمح لهذا أن يتكرر مرة أخرى، تحاول إدارة العالم الداخلي، من خلال إبقاء المنفيين محجوبين، وتحاول أن تتعامل مع المواقف الخارجية، بما يمنع إعادة تنشيط الجراح القديمة.

أنواع الحماة (Protectors): وتنقسم أجزاء الحماة إلى: مديرين (managers) ورجال إطفاء (firefighter).

التعرف على المديرين:

«المديرون هم أجزاء وقائية تحاول منع حدوث تجارب أو مشاعر مؤذية، وذلك من خلال التحكم في سلوك الشخص، وعواطفه، وتفاعلاته. إنهم يتوقعون الخطر ويسعون لحماية النظام الداخلي من خلال الحذر والاستباقية».

المديرون هم الأجزاء المسئولة عن سلامتنا اليومية، إنها الأصوات التي نسمعها في أغلب الأحيـان، لدرجة أننا نظن أنها نحن! نعتمد عليهم في يومنا، ومع ذلك نشعر بالتقييد والانزعاج منهم، إنهم الأجزاء التي تريد التحكم، وإذا ذكر التحكم ذكر الخوف، فهي تخاف أن نكون في وضع مهين، جارح، في وضع نكون فيه مرفوضين أو مُهاجَمين، يحاولون التحكم في شكلنا، أدائنا، مشاعرنا، وأفكارنا لحمايتنا، تحت شعار: «لن نسمح أبدًا بتكرار ما حدث في الماضي».

وفي طريقهم إلى ذلك يستدمجون قيم ممثلي السلطة، ويبحثون عن أي خطأ فينا، أي ثقب، أي شيء يحتاج إلى إصلاح، ويعملون بأدواتهم المعهودة: الكمالية، والمقارنات، والتشاؤم، والنقد، وغير ذلك من أجل حمايتنا، إنهم يخلقون الروايات، ويفسرون العالم لنا، إنهم يكونون رؤيتنا لا عن أنفسنا بل عن العالم كذلك!

ما الهدف من كل ذلك؟

يهدف المديرون إلى حماية المنفيين بشكل استباقي، فهم يحمونهم، ومع ذلك يحتقرونهم، يحاولون تجنب الأحداث المربكة، يريدون العالم أكثر قابلية للتنبؤ، يبدو أنهم أشبه بأحاديث داخلية تمنعك من التركيز، أصوات تكره الذات، تخاف من العلاقات.. وغير ذلك. وبمجرد أن تسلط الضوء عليهم تجدهم أصغر مما يبدو عليه، مثقلون بالمسئولية والخوف.

أنواع المديرين:

تشمل أدوار المديرين الشائعة: الناقد الداخلي، المُرضي للناس، المُتحكِّم، الكمالي، والمُعتني بالآخرين.

الناقد الداخلي هو ذلك الذي يهاجمك! ليتفادى الخزي والفشل، والمُرضي للآخرين: يسعى لحصولك على القبول من الآخرين، ويسعى حثيثًا لكي يجنبك الرفض، والكمالي الفظيع: يحاول حمايتك من الفشل والنقد والألم عبر وضعك أمام أعتى المعايير، والمتحكم: الخائف الذي يريد أن يبقي بيئتك تحت سيطرتك، والقلق: الذي يراقب باستمرار، ويتوقع الأخطار من أجل سلامتك، والمنسحب: الذي يجنبك العلاقات والتفاعلات ليحميك من الجرح، والراعي: الذي يركز على رعاية الآخرين ويضعهم في مرتبة أهم منك؛ ليجنبك رفضهم، وغضبهم، ووحدتك.

وبين هذه الأجزاء في الغالب، تحدث الحروب والصراعات أو ما يعرف بالاستقطاب.

ما الذي نعنيه بالاستقطاب؟

الاستقطاب هو: صراع بين جزئين أو أكثر من الأجزاء النفسية، يتخذ كل منهم موقفًا مضادًا، أو معارضًا للآخر، ويحاول أن يهيمن عليك، حالة من الشد والجذب بين أجزاء تسعى جميعها للحماية، عبر تقنيات وطرق مضادة لبعضها، وفي هذا مثال سنذكره، عن معنى الاستقطاب، وكيف تتدخل الذات (Self) لحل هذا الاستقطاب بين الأجزاء المستقطبة.

ما موقفنا من المديرين؟

في الغالب، نريد أن نتخلص منهم، نريد التخلص من القلق، والنقد، والكمالية، والإرضاء، وغير ذلك، نريد أن نشعر بالحرية، ومع ذلك! نحن نعتمد على توجيههم وحمايتهم بشكل واضح، الحياة من دونهم حياة غريبة، ومخيفة، كيف أعيش بدون الناقد الذي يوجهني! كيف أتحرك إن لم يكن هناك من ينتقدني، وكيف أستمر في العالم! وهذه كلها مخاوف تقف أمام رحلة العطف على النفس، خوف من أن أكون أنا على الحقيقة، ماذا لو عرفني الآخر فرفضني! . .

خلاصة الحديث عن المديرين:

ومع ذلك، فإن المديرين، هم أجزاء منا، والمفاجأة، هم ليسوا مخيفين كما يبدو، وهم كذلك يكرهون أدوارهم! هم يلعبون هذا الدور لحمايتنا، لكـنهم في الحقيقة، لا يحبون مثل هذا الوجود، علينا أن نقدر تلك المسئوليات التي يتحملونها، والضغوط التي يعيشونها، قتالهم في الغالب ليس مفيدًا، ولعن وجودهم لا يجدي نفعًا، إنهم يبذلون قصارى جهدهم، للحفاظ على سلامتنا، لقد أدركوا كيف يمكن أن تكون مشاعرنا وذكرياتنا وأحاسيسينا مدمرة لنا، وتعهدوا أن يحافظوا على سلامتنا.

حتى أكثر الأجزاء الداخلية قسوة ونقدًا ليس جزءًا سيئًا! إنه فقط خائف، إنه يعتقد أن عليه أن ينتقدك! ويقسو عليك؛ لأن هذه هي الطريقة الوحيدة لحمايتك، وعندما يثق بك! ويثق في قدرتك على قيادة نفسك بالعطف عليها، فإنه يلين، ويلعب دورًا أكثر رقة. 

التعرف على رجال الإطفاء:

حتى مع كل هذا المجهود العظيم الذي يحاول به المديرون حمايتك، فإن دفاعاتك معرضة لأن تسقط أمام مخاطر هذا العالم، ونختلف في ذلك وفقًا لما مررنا به جميعًا، وإذا سقطت دفاعاتك، فتكون تلك فرصة لخروج العماليق المنفيين، الذين يهددون نظامك الداخلي بالكامل! وهنا يأتي نوع آخر من الحماة، يسمونهم رجال الإطفال، ومن اسمهم نعرفهم، إنهم هؤلاء الذين يأتون في حال وجدت (الحريقة).

دور رجال الإطفاء:

إذا خرجت المشـاعر القوية بالأذى، الفراغ، عدم القيمة، الخزي، الرفض، الوحدة، والخوف، يخرج الجزء المسئول عن الحماية المسمى برجال الإطفاء، قد يحاولون تشتيتك بالعمل، الطعام، التمرين، التسوق، النوم، أو حتى أحلام اليقظة، وكثيرًا ما تفشل هذه الأمور! مما يضطرهم إلى اللجوء إلى مستوى أعلى، فقد يلجأون إلى المخدرات، الكحوليات، السلوكيات الانتحارية، الغضب الجارف، إيذاء الذات، النشاطات الجنسية القهرية، والسرقة.

إن هذه الأجزاء ليست استباقية كما المديرين، لكنها تخرج في حال خرج المنفيين، وهذا الجزء هو الذي يحولنا في النهاية إلى أشخاص، وزنهم زائد، مدمنين، عدوانيين، ومرضى.

دفاعًا عن رجال الإطفاء:

لماذا يفعل رجال الإطفاء كل ذلك؟ يفعلون كل ذلك من أجل حمايتنا، وإذا عاملناهم باحترام، وعطف، فإنهم يسقطون أقنعتهم، وسترى وجوههم الحقيقية، لكـن عليك أن تعرف، أنه بدون شفاء المنفيين، فإن رجال الإطفاء سيظلوا قائمين بدورهم.

خلاصة الحديث عن رجال الإطفاء:

نخلص من ذلك إلى أن كل هذه الأجزاء وجدت لأجل ذلك الألم، والخزي المتراكم في حياتك، والطرق التي تعلمت بها كيفية التعامل مع ذلك، لم تتعلم كيف تتعامل مع هذا الثقل، وبالتالي نفيت هذه الأحاسيس والذكريات والمشاعر والأجزاء المتعلقة بهم، مما أدى لوجود الحماة.

فتكون المحصلة: منفيين يشعرون بالخوف والحزن والخجل، ومديرين يخططون لحياة سالمة، ورجال إطفال في هياج مستمر، مجموعات مستقطبة، كل مجموعة تحاول أن تفرض سيطرتها بعنف، وصلابة.

هل ثمة شفاء؟

عندما نصل إلى موارد الشفاء، نجد تدريجيًا أنه لم يعد هناك مديرين، أو منفيين، أو رجال إطفاء! الأجزاء لا تفنى، لكنها تتحول إلى أدوار أخرى تتكامل مع بعضها، ثقة في وجود قيادة الذات! ولكي نعرف كيف يحدث ذلك الشفاء، عليـنا أن نتعرف على أهم مكون في كل هذه العملية، وهو الذات.

الذات (القائد):

«كل إنسان يمتلك ذاتًا حقيقية. لا أحد يخلو منها، ولا يمكن إتلافها. إنها تعرف كيف تشفي».

«الذات هي ذلك المكان بداخلنا الذي لم يُمسّ، والذي لديه قدرة طبيعية على القيادة بالمحبة».

الذات هي حجر الزاوية في كل هذا النموذج، وهي ما يظهر عندما تتراجع الأجزاء، وهنا يأتي السؤال، هل الذات هي شيء خارجي نحصل عليه من المجتمع؟ أم أنها شيء داخلي؟ هل المعالج يساعد المريض عن طريق أن يعلمه كيف يبني ذاته؟ أم أنه يكشف عنها فقط؟ شوارتز يقول في نهاية المطاف أن الذات موجودة، حتى لو كانت ضعيفة، وصوتها خافت، فهي موجوة، موجودة بداخل كل فرد فينا، بغض النظر عما تعرضنا له، وهنا يكون دور المعالج الكشف عنها، وإفساح المجال لها، أو كما يقوم إرفين يالوم: إزالة العقبات أمامها، من أجل أن تخرج وتقود كل هذه الأجزاء معًا، الذات هي الجزء الداخلي القادر على إدارة دواخلنا.. وإليك كيف نعرف عن الذات.

صفات الذات

توصف الذات بثمانية صفات، تعرف الذات بهذه الصفات، ويستدل عليها بوجودهم، معًا:

  1. الهدوء: تخيل! للحظة، أن جسدك هادئ! أن قلبك في مكانه، نفسك منتظم، تخيل أنك قادر على التقاط أنفاسك بهدوء، على التحرك بهدوء في هذا العالم، دواخلك هادئة، مطمئنة، ساكنة، أنه شيء أقرب إلى الـ inner peace، السلام الداخلي، أن نكون أقرب إلى أجسادنا، أهدأ، ليس على المستوى الجسدي والفسيولوجي فقط، إنما على المستوى العقلي كذلك، عقلك هادئ، لا مزيد من القرود بالداخل، لا انتقالات من خوف إلى خوف، ومن هلع إلى هلع، إنما حالة من الصفاء والهدوء، الحقيقيين، هي حالة لا يكون الخوف فيها مجمدًا، تعلمنا ثقافتنا أن نكون هادئين من الخارج، بينما الدواخل تغلي. . أما هنا، فإن الدواخل هادئة، وتنعكس على الخارج. . لا يعني ذلك أنه لا حركة أو مشاعر، إنما يعني ذلك أن هناك مركز هادئ تمامًا بالداخل، نستطيع الركون إليه. .

تخيل، ماذا لو كان بداخلك مثل هذا المركز الآمن الذي تستطيع الركون إليه، أليس ذلك هو النعيم الكامل؟

  1. الوضوح:

«الرجل الذي فقد فأسه، شك في ابن جاره.. كان الولد يمشي كسارق! يبدو كسارق! يتحدث كسارق! لكن سرعان ما وجد الرجل فأسه بينما كان يحفر في الوادي. في المرة التالية التي رأى فيها ابن جاره، كان الولد يمشي، ويبدو، ويتحدث، مثل أي طفل آخر!».

الوضوح يعني: القدرة على إدراك الموقف، لا رؤيته محملًا بالأحكام، لا رؤيته محملًا بالمشـاعر والخبرات السابقة والماضي، بل رؤيته كما هو على الحقيقة، أن تعيش بعقلية المبتدئ، تدرك انحيازاتك، لكـن لا تدعها تتحكم في حياتك، إنك في هذه الحالة ترى عبر الذات، تقف المصابة باضطراب الأكل أمام المرآة، نحيفة هزيلة، فترى نفسها سمينة، وتريد أن تتوقف أكثر عن الأكل، ندخل في علاقة نرى الآخر بشكل ما، ونتجاهل كل الإنذارات الحمراء التي تلمع في أعيننا، ثم بعد قليل نرى كل السوء فجأة!  الوضوح هو حالة من الثبات، في رؤية الأشياء والوقائع، كما هي عليه، لا كما نحن عليه.

  1. الفضول: إن الفضول هو جوهر نهج هذا العلاج، أن تستمتع بفضول، وترغب في معرفة الأشيـاء والأجزاء، فضول تجاه العالم، بحث باهتمام، بلا أحكام، فيدفعك فضولك ناحية استكشاف الأشيـاء كما هي، وفضولك ناحية الأجزاء هو ما يحررها في النهاية.
  2. التعاطف: التعاطف صفة أصيلة من صفات الذات، وهو مبني على الفضول، فأنت تتعرف على أجزائك، وتدرك حجم الأذى الذي يحمونه، وتدرك حجم الجهد الذي يقومون به، التعاطف هو أن ترى في الآخر شيئًا منك، التعاطف هو رحلة قبول لنفسك وللآخر.
  3. الثقة: إن الثقة تفسر لنا كيف أن الأزمة ليست في الانتقادات الخارجية الموجهة إلينا، الأزمة كلها في منظورنا عن هذه الانتقادات، الأزمة في الناقد الداخلي الذي سيستثار من الهجوم الخارجي، إننا نخشى انعكاسات ما نسمعه علينا، حينما نعالج هذه الأجزاء الضعيفة، يهدأ المنتقدون الداخليون، وتقل الدفاعات، وتزيد ثقتنا في مواجهة العالم، ونتفاعل حينها مع الموقف فقط، لا مع ما يستثيره الموقف من ذكرياتنا ومشكلاتنا.
  4. الشجاعة: الشجاعة من صفات الذات، أن لا نخش الهجوم، أن نثق في قدرتنا على التعامل مع عواقب الأفعال، نتشجع في سماع الآخر، بفضول، والاعتذار بصدق، نتشجع في التوجه نحو الألم والخزي، لا بعيدًا عنهم.
  5. الإبداع: يخرج الإبداع حين يهدأ عقلك المنطقي الذي تفترض أنه يعطيك الحقيقة، فتتسع الخيارات، وتفكر خارج الصندوق، وتظهر الحلول البعيدة لمشاكل طويلة الأمد، الإبداع يعطيك فرصة للحياة بشكل مختلف.
  6. الترابط: سنشعر بإحسـاس مترابط مع جميع الأشخاص من حولنا، هنا ترتاح من الأقنعة، ذاتك ستجذب ذات الآخر، ستتعرف على الأشخاص بصفتك أنت.

«عندما تتحرر الأجزاء من أعبائها، تظهر الذات بوضوح».

«نحن لسنا أجزائنا، نحن ذات قادرة على الشفاء».

«للشفاء، يجب أن نواجه ونحتضن منفيينا».

ختام:

يقول شوارتز إن الشفاء يبدأ بتحرير الأجزاء من أدوارها، وكما يورد في كتابه:

استخدم الطبيب النفسي بول فاتسلافك وزملاؤه استعارة بحرية (سأضيف لها شيئًا من التوسع) لتوضيح مفهوم الاستقطاب (polarization) في الأنظمة النفسية. تخيّلوا صورة بحّارين يتشبث كلٌ منهما بجانب من جوانب قارب شراعي في محاولة لتثبيته، فكلما مال أحدهما أكثر نحو جانب، اضطر الآخر للميل في الاتجاه المعاكس لموازنة القارب. والنتيجة أن القارب نفسه يصبح غير مستقر، لولا تلك المحاولات البهلوانية من كلٍّ منهما للحفاظ على توازن القارب لاستقر.

كلا البحّارين تركا موقعهما المفضل والقيّم وتشبثا بموقع غير مريح، مما يحدّ من قدرتهما على التحرك ويجعل القارب عرضة للانقلاب. يظل كل واحد منهما في موقعه المتطرف فقط استجابةً لتطرف الآخر. والمفارقة أن كلًا منهما لا يرغب في دوره الحالي، ولكن طالما أن الطرف الآخر ما زال في وضعه، لا يستطيع التراجع. كل واحد منهما لديه سبب وجيه للخوف من التراجع عن موقعه بشكل أحادي. لكن القارب لن يستقر حتى يتحرك كلاهما معًا نحو المركز.

كل بحّار على حق في اعتقاده أنه لو تحرّك وحده نحو الداخل، فسوف ينهار القارب لأن الآخر لا يزال مائلًا نحو الخارج. الحل الوحيد هو أن يتحرّك كلاهما في نفس اللحظة. ولأنهما لا يثقان ببعضهما البعض، فإن الطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك هي تدخل طرف ثالث محل ثقة، يُطمئن كلًّا منهما أن الآخر سيتحرّك أيضًا. وإذا كان هناك قائد جدير بالثقة على متن القارب، يمكنه أن يقنع كلًا منهما بترك حافة القارب في نفس الوقت. وبمجرد تحررهما من هذا الاستقطاب والضغط الناتج عنه، يمكن لكل منهما أن يتحرك داخل القارب، ويستعيد دوره القيّم والممتع، ويثق في القبطان الذي يقود القارب إلى مسار أكثر فائدة للطرفين.

إن هذا النموذج يسعى في النهاية إلى قيادة الذات، بصفاتها الحكيمة، مما يوقف ذلك الصراع الداخلي العنيف، ومما يمكننا في النهاية من عيش حياة أفضل.

# صحة نفسية # كتب # مراجعات كتب

لماذا يجب أن تحركك قيمك لا إنجازاتك في بيئة العمل؟
التنمر: في حضرة الوحش الخفي
وجوه العنف المُقنعة: كيف يخفي الخطاب الفني إيذاء النساء؟

معرفة